قد تستغرب أن تقوم ثورة 25 يناير بعد انطلاق شرارة الشباب فيها ليعبر بذلك عن طاقة استثنائية قام فيها الشباب بعمل استثنائى بكل المقاييس يتعلق بثورة كبرى احتضنها الشعب، قدمت هذه الثورة لمصر فرصة عظيمة لبداية مسيرة إصلاح جذرية فى جميع مناحى المجتمع، إلا أنه قد تستغرب أيضا أن هذا الشباب الذى مثل فئة عمرية وجيلا جديدا، والذى حمل مشعل هذه الثورة لا تراه فى المشهد المجتمعى والسياسى، هذه المفارقة الخطيرة بين حضور الشباب فى مشهد الثورة وبين اختفاء فاعلياته فى مشهد الانتقال السياسى والمؤسسى والمجتمعى، ليعبر عن خلل خطير فى الرؤى والتفعيل، باعتبار أن الشباب أطلق شرارة هذه الثورة حتى يتمكن بمشاركته تلك فى صناعة مستقبله.
●●●
ذلك أن النظام البائد تعامل مع ملف الشباب وكأنه بينه وبينهم ثأر أدى فى النهاية إلى تعطيل طاقات الشباب الإيجابية وإلى تهميش دوره فى المجتمع، وأبرز للأسف الشديد الشباب فى عباءة ابن المخلوع فى مشروع توريث شكل أهم بواعث ثورة 25 يناير، وبرز شباب من نوع متسلق يحاول أن يجعل من نفسه مطية لأهداف ابن الرئيس المخلوع ومشروع توريثه وتمكينه، وهو ما أهدر كل هذه الطاقات الشبابية وأدى إلى تعطيل قدراتهم وسد كل طريق على فاعليتهم، وبدا الشباب محبطا ضمن صناعة اليأس من بطن منظومة الاستبداد، فلم يكن لديه بصيص من أمل، ولم يستشرف أى ضوء فى نهاية النفق.
إلا أن الشباب فى حقيقة الأمر أراد أن يصنع عنوانا آخر ضمن معادلة جديدة فى ثورة 25 يناير، صناعة الأمل عنده لم تكن إلا مقدمة للتأكيد على تحويل الأمل إلى عمل وإلى القيام بدور مهم فى صناعة المستقبل، تلك كلها صناعات ثقيلة ارتبطت بهذا الشباب وارتبط بها. والتجاوب مع القطاع الشبابى بجميع فئاته والاستجابة لمطالبه، وتوفير الفرصة له ليعلن عن نفسه هو المدخل الأساس لتمكينه، والوقوف فى وجه اغترابه أو تهميشه.
فإذا كنا نقول أن الشباب أكثر من نصف الحاضر وكل المستقبل، فإننا بذلك لا نغادر الحقيقة، ويصير ترجمة هذا الأمر على أرض الواقع يحتاج إلى عمل حقيقى واستراتيجية مكينة، وسياسات رصينة، وتشريعات وقوانين معينة، وآليات عملية قويمة.
●●●
تمكين الشباب يعنى فتح الأبواب الموصدة فى وجوههم، والثقة فى قدراتهم والاطمئنان إلى فهمهم للواقع وطموحهم المشروع والرشيد إلى أن يحققوا الإنجازات لوطنهم.
استراتيجية تمكين الشباب بهذا المعنى تؤكد روح ثورة 25 يناير التى مثل فيها الشباب مشهد محاكاة عبقرى فى ميدان التحرير والميادين كلها، وإذا كنت قد أشرت قبل ذلك إلى أن هذه الثورة فى الثمانية عشر يوما كانت كالملف المضغوط الذى يحتاج إلى برنامج لفكه لإشاعة قيمة فى المجتمع من خلال اشتباك هذا الشباب مع كل قضايا هذا المجتمع وتحدياته. هذا الملف المضغوط فى حاجة الى التعرف على إمكانات استثمار طاقات الشباب الإيجابية فى إطار تمكين مجتمعى فعال ومستمر، واستراتيجية تمكين الشباب بهذا المعنى تتطلب بنية تحتية تمكنه فى مجالات عدة وبآليات متنوعة. ويرى الكثير منهم أن «تمكينهم» وإشراكهم فى العملية التنموية وإدارة مشاريعها والانخراط فى برامجها ودمجهم فى الحياة العملية، تسبقه خطوات مهمة منها: جمع المعلومات الدقيقة عن الكفاءات الشابة، وتصنيف مؤهلاتهم العلمية وفحص خبراتهم العملية وتقييم مهاراتهم وإجراء الدراسات المسحية حول القطاعات التى يمكنها استيعاب هؤلاء الشباب ومدى سعتها وما متطلباتها.
يبدو هذا التمكين اقتصاديا حينما نعالج مشكلة البطالة التى يشكل الشباب محتوى لها، يشير ذلك إلى مفارقة عجيبة؛ إن الأمم القوية تبنى من خلال الاستثمار فى شبابها واستثمار حال الفتوة فى هذه الفئة العمرية والجرأة والمبادأة فى أساليب التفكير والتدبير والدافعية والحركية فى النشاط فعلا وتفعيلا وفاعلية، وحينما نجد هذا الشباب الذى يجب أن يشكل قيمة مضافة لفاعليات المجتمع وطاقاته يقع أسيرا لعملية تجفيف لنشاطه وطاقاته محصورا بين حالة من البطالة الإجباربة والعطالة الذهنية، شىء خطير أن تهدر هذه الطاقات ضمن عمليات كثيرة تتم فى المجتمع عنوانها «هدر الامكانية».
●●●
إن التمكين المجتمعى لا يمكن أن تكتمل أركانه إلا بتمكين الشباب ضمن حركة عمل حقيقية لا بطالة إجبارية، ومن هنا نرى ضمن هذه الرؤية ضرورة أن يمكن الشباب فى فرص العمل ، أقول لكم وبصدق أن المجتمع المصرى قد شاخ فى طبيعته وأصابه بعض العجز فى حركته والشلل فى فكرته، إنه يحتاج إلى عقل الشباب وعمل الشباب وفتوته، إلى قدرته وقوته، إلى فعله وفاعليته. إن المجتمع المصرى تكلست بعض طاقاته وتصلبت معظم شرايينه من جراء نظام بائد همش الشباب وجفف كل منابع الفاعلية فيه، وما ثورة 25 يناير إلا إيذانا برفض هذا الشباب لفرض تلك الحالة عليه، وهو قادر فى انتفاضته أن يجعل من صناعة الأمل من خلال العمل رفضا لحالة البطالة والعطالة التى لا يمكن أن يستسلم لها، أو يستسلم لعمل الاستبداد فيه ومحاولة تجفيف حلمه وتجريف أمله وتزييف وعيه وتبديد عمله.
هذا التمكين الاقتصادى للشباب لا يمكن أن يتم إلا بتصدره لمشاهد تنمية المجتمع وتفعيل هذه الطاقات فى بناء نهوضه ورقيه، إن المبادرات التنموية التى يحملها هذا الشباب إنما تعبر عن امكانية وطاقة يحتاجها المجتمع فى هذا الظرف التاريخى لأن الشباب بهذا المعنى هو رافعة التنمية الحقيقية وقاطرة الإنماء المستدام.
كذلك فإنه من المشاهد التى يجب أن نرى فيها تمكين الشباب بحق تمكينه فى صداره العمل التنفيذى ومشاهد السلطة الحقيقية، ومواقع التنفيذ للاستراتيجيات والسياسات، إن وجود الشباب فى صفوف القيادات لعمليات التنمية لا يشكل مطلبا شبابيا فحسب، وإنما يشكل مطلبا مجتمعيا يتصدر فيهه الشباب المشهد كما تصدر مشهد الثورة، ويعبر فيه عن آماله وطموحاته، إن إلحاق الشباب كمساعدين للوزراء والمحافظين وجميع المناصب التنفيذية لأمر يستحق التأمين والتمكين، ولا يجب أن نهون من هذا الأمر لأنه بذلك يعد بداية الطريق بإخراج المجتمع المصرى من حال شيخوخته وتصلب شرايينه.
كذلك من المهم أن نتحدث عن مشاهد تمكين الشباب فى ميادين العمل المدنى وفاعلياته ، بإنشاء جمعيات شبابية تتخذ من هذا الجيل مبناها ومعناها، هذا العمل المدنى يحقق مشاركة الشباب وإسهامه فى هذا الميدان لينقل إليه القيم السامية التى بزغت من ميدان التحرير وميادين مصر كلها، الميدان بداية لعمل مدنى وميدانى لطاقات الشباب وتفعيل إمكاناته ومكانته.
●●●
كذلك من مشاهد التمكين للشباب تلك المبادرات الثقافية والتثقيفية لإحداث وعى سياسى ومجتمعى يحرك طاقات التغيير الثقافى والقيمى ليقدم كل قيم الفاعلية، الثقافة عنوانا كبيرا لثقافة الشباب وشباب الثقافة، إنه مرة أخرى يشكل علاجا لشيخوخة الثقافة وتصلب شرايينها، كم كنت منبهرا حينما كان يأتينى الشباب يحملون المبادرات الثقافية لتوعية أنفسهم وتوعية مجتمعهم، أين نحن من تجميع وتشبيك هذه الطاقات والمبادرات ونظمها فى صعيد يضمن النهوض بالمجتمعات.
مشهد آخر من مشاهد التمكين يتعلق بالمشهد الانتخابى الذى نحن مقدمون عليه فنقدم طاقة شبابية فى مراكز الشباب المختلفة ومساهمة حقيقية من الشباب فى المحليات ومشاركة أصيلة فى الانتخابات البرلمانية، مشهد انتخابى لا يخلو من شباب واعد وقادر بأدائه النوعى أن يقدم الكثير والكثير لمجتمعه وكياناته ونظمه ومؤسساته.
فمؤسسات المجتمع عليها أن تكون مستعدة ولديها الأوعية الطبيعية لاستيعاب الشباب. وهذه القضية ليست مسؤولية جهة واحدة ، بل هى مشروع وطن تتوزع مسئوليته على قطاعات متعددة، والكل مطالب بالمساهمة فيه، وأى قصور أو تقصير سيسبب خللا فى مساره.
●●●
تمكين الشباب «مشروع وطنى» طويل المدى لا يتوقع أن تتم كل مراحله والوصول إلى نضجه وقطف ثمرات نتائجه فى فترة وجيزة، وإن كانت بعض أجزائه لا تحتاج إلى وقت طويل. وهو مشروع يحتاج إلى «تأسيس» يقوم على قواعد من الاقتناع بجدواه وضرورته حتى تضمن استمراره وتوسعه.
تأتى هذا القراءة بمناسبة ورشة عمل قامت بها مؤسسة مصر الخير حول تنمية وتأهيل وتمكين الشباب، قدم فيها الحضور أفكارا ومناقشة فعالة، واجتمع الحاضرون على أن تمكين الشباب يجب أن يتم من خلال آليات تفعيل وآليات تشغيل من شراكة شبابية وتدريب وكوادر شبابية وتنمية مهارات تفكير فى أكاديمية الشباب فى فن الحياة، وشباب صناعة الحلم ، لأن الشباب جزء لا يتجزأ من المنظومة الإنسانية والهبة الديموجرافية والمنحة الديمقراطية والشرارة الثورية، حسن استثمار الشباب هو بداية تمكينه، وتنمية المجتمع وأمنه الإنسانى وتأمينه.