فى السياسة لا يمكن أن تفسر أى قرار سياسى مهم بمعزل عما قبلة من قرارات يتخذها حزب أو فصيل، ولا يجوز أن تحلل القرار بعيدا عما حوله من تفاصيل صراع المصالح داخل المجتمع، وموازين القوة فيه، بل وفى داخل مؤسساته التى تلعب الدور الرئيسى فى هذا المجتمع، فصناعة القرار هى بالضرورة تعبير عن تعامل السلطة مع هذا الصراع.
تلك هى أساسيات علمية فى فهم وإدراك عملية صنع القرار، وهو ما ينطبق على محاولة تحليل قرار السيد الرئيس بإحالة المشير طنطاوى وعنان إلى التقاعد، الذى لا يمكن تفسيره بمعزل عما سبق، وإلا يكون النقد المطلق منطقه التجنى، والإشادة المطلقة منطها المراهقة السياسية الفرحة بانتصارات زائفة، لذلك فنحن وحينما نحاول تقييم قرار مرسى بموضوعية لا بد من أن نضع فى اعتبارنا العاملين التاليين:
أولا: وضع الجيش والمجلس العسكرى قبل صدور القرارات، وموازين القوة بداخله، ونقصد هنا تحديدا المجلس العسكرى ومن كانوا أقوى رجاله وأكثرهم نفوذا وأهمية وتأثيرا.
ثانيا: السياسة العامة لجماعة الإخوان المسلمين التى لا يزيد الرئيس مرسى -رجل الجماعة المفعول به- عن كونه منفذا لها، وهنا ونحن نحاول تحديد ملامح تلك السياسة نستند إلى أمرين رئيسيين، الأمر الأول هو طبيعة العلاقة داخل جماعة الإخوان المسلمين التى يتحكم فيها تيار متشدد أقصى خصومه الإصلاحيين بعد حسم سيطرته الاقتصادية والسياسية على الجماعة منذ عامين تقريبا بشكل نهائى، أما الأمر الثانى هو تقييم سياسات الإخوان فى مجلس الشعب المنحل وفى مؤسسة الرئاسة، وهنا تجد ثلاثة إجراءات مهمة فى إطار سعى الإخوان لتحديد شكل الدولة الجديد، هل هى دولة ديمقراطية حديثة كما يريدون أم دولة جديدة يسيطرون هم على مفاصلها بنفس مظاهر الاستبداد القديم؟
وفى إطار هذا راقب تعامل الإخوان مع الأصوات الاعلامية المعارضة بنفس منظومة قوانين مبارك وقراراته الإدارية، وموقفهم من القضاء المتبدل يوما تلو الآخر، وفقا لما يصدره، هل هو لصالحهم أم لا؟ وموقفهم المهيمن على الجمعية التأسيسية للدستور، وتعاملهم مع البنية التشريعية لنظام مبارك على صعيد استقلال القضاء وحرية الإعلام وغيره وغيره من أمور وتشريعات تغييرها إما يؤدى إلى نظام ديمقراطى حقيقى وإما يسخّر تلك البنية التشريعية ونفس الآليات القديمة ومؤسسات الدولة لصالح الفصيل الحاكم الجديد.
باختصار إن وضعت تلك العوامل فى أعمق نقطة فى ذهنك وأنت تحاول قراءة قرارات مرسى، ستدرك الآتى، أن جماعة الإخوان المسلمين فى مجمل تعاملها مع مؤسسات الدولة المصرية أدركت أن لا سبيل إلى توطيد أركان حكمها إلا بصناعة مزيج يوظف مصالح ما تبقى من النظام القديم فى إطار أشمل، وهو مصلحة جماعة الإخوان المسلمين السياسية، من منطلق أن من يحارب الجميع ينهزم، أى أن الجماعة لم تسع لتفكيك رأس فساد مؤسسات الدولة كاملا، بل ضربت نصف رأس هذه المؤسسات، واستبدلت بالرأس القديم آخر جديدا يجمع بين المصلحتين مصلحة الجماعة ومصلحة القديم بمنطق «المناصفة» أو «الشراكة»، وهى نسبة قد تتغير بالتأكيد إن مر الوقت لصالح المزيد من الاستحواذ الإخوانى والهيمنة، أى أنه استبدال تدريجى لا جذرى، تزيد مكاسبه لصالح الجماعة بمرور الوقت.
فالجماعة حينما عينت رؤساء جدد لتحرير الصحف، جاءت بكثير من رجال مبارك، ممن هم قادرون على تغيير ولائهم وانتمائهم لصالح من يحكم، وتوظيف نفس أساليب المنع والرقابة لصالحه، فالجماعة لم تشأ أن تضع قيادتها متفردة على رأس أغلب تلك المؤسسات، كون ذلك قد يثير ردود أفعال سلبية فى ذلك الوقت على الأقل، لكنها جاءت بمن تضمن ولاءهم، وضمان ولائهم هنا ليس نابعا من إخلاصهم التنظيمى أو الأيديولوجى، لكنه مستمد من طبيعة هؤلاء المتلونة القادرة على منح ولائها لمن يدفع، وخدمته فى المقابل أيا كانت أيديولوجيته أو أفكاره ما دام يضمن لهم مصالحهم.
أيضا الأمر نفسه فى ما يتعلق بتعامل الجماعة مع رجال اقتصاد النظام القديم الذين بدأ الكثير منهم فى خطب ود جماعة لم ترفض خطب ودها من هؤلاء، الذين يحملون ملامح السياسة الاقتصادية نفسها التى تتبناها الجماعة، ووجدنا رجال الاقتصاد والمنظومة القديمة لا يتورعون عن التهنئة والإشادة ودعم قرارات الرئيس الجديد والتحدث عنها فى منابر إعلامية وكأنهم يتحدثون عن مبارك تقريبا.. راقب أيضا تشكيل الحكومة الجديدة، وهو تشكيل يجمع ما بين القديم والجديد، رجال مبارك ورجال خيرت الشاطر تحت قيادة واحدة بالمناصفة!!
قس على ذلك ما حدث داخل المؤسسة العسكرية، ومجلسها العسكرى، الذى كان أهم من فيه وفى تحديد قراراته هم أربعة أشخاص، وزير الدفاع (صاحب التاريخ الأطول كوزير للدفاع فى الستين عاما الأخيرة)، بما يحمله من سلطة معنوية، ورئيس الأركان بما يحمل من قوة ميدانية، واللواء العصار بكونه مفتاح العلاقات العسكرية الأمريكية وصفقات السلاح الخاصة بالجيش، واللواء عبد الفتاح السيسى رئيس المخابرات الحربية بما يملكه من توجيه لصناعة القرار، مستندا إلى قوة معلوماتية، ومساحات شغلها جهازه، وكانت فى السابق تشغلها أجهزة أمنية أخرى، مثل الأمن الوطنى الذى بدا أن استعادة نفوذه بشكله القديم أمر صعب نسبى، والمخابرات العامة التى بدا رئيسها المحال إلى التقاعد فى الفترة الأخيرة غير مرغوب فيه من الرئيس والمشير طنطاوى كونه دائم النقد ومستاء فى أوقات عدة.
ورغم أن المجلس العسكرى لم يتخذ بالطبع قرارا ينم عن براعة أو فطنة أو انحياز حتى لمدنية الدولة، كما كان يراهن البعض، بل بدا الأمر كله هو كيف يحمى هؤلاء مصالحهم ونفوذهم الاقتصادى وخروجهم الآمن، غير أن الإخوان وفى إطار إجراءات أشمل للاستحواذ والسيطرة على مفاصل الدولة المصرية أوضحنا مقدماتها فى السطور السابقة، رأوا الحفاظ على هذا المجلس كما هو أمرا قد يقف حجر عثرة فى سبيل تحقيق مشروعهم، حتى وإن بدا أن المجلس لا يتخذ إجراءات عدائية الآن، لكنه يمثل تهديدا مستقبليا، فكان استخدام الأسلوب نفسه نفس أسلوب تشكيل الحكومة، ونفس أسلوب التعاطى مع الإعلام، الإطاحة بنصف الرأس واستيعاب النصف الثانى الذى لا يجد أى غضاضة فى أن يكمل الرأس الإخوانية ما دام سيجد له نصيبا من المصلحة.
الأمر كله بعيد عن الإجراءات الثورية أو الإصلاحية حتى، فالسيد عبد الفتاح السيسى رئيس المخابرات الحربية، وإن بدا أنه قيادة صغيرة فى السن طامحة لتولى منصب وزارة الدفاع، لا يعد شخصا مختلفا كثيرا على الأقل فى أعين الساسة عن زملائه ممن ناصبتهم الحركات السياسية العداء، فالرجل متورط فى مذبحة سيناء بشكل كبير (وفقا لطبيعة دور الأجهزة الأمنية فى سيناء ونسبة توزيع المسؤولية على الأجهزة السيادية المعنية)، ويشار إلى تحمله المسؤولية فى قضية كشوف العذرية، وتعذيب ناشطين داخل مقرات المخابرات الحربية، ناهيك بأصابع الاتهام الموجهة إليه فى ما عرف إعلاميا بمعركة العباسية الأولى.
أما اللواء العصار فهو مهندس صفقات السلاح المصرية الأمريكية، بكل ما يدور حولها من شبهات وما يثار حولها من أحاديث قد ظل أيضا فى موقعه، من مساعد طنطاوى لمساعد وزير الدفاع الجديد ويبدو أن الاثنين قد استوعبا الدرس بشكل صحيح، الدرس الذى مفاده أن طنطاوى بكبر سنه وسامى عنان رئيس أركانه بفشله، أصبحا محروقين شعبيا تماما، وغير قادرين على تلبية طموحاتهما أو حمايتهما، بل حتى غير قادرين على حماية أنفسهما فى مواجهة جماعة تتمدد وتتوغل، صارت تسيطر على مؤسسة الرئاسة والإعلام والدستور وكل شىء تقريبا، فكان تحالفهم مع الإخوان المسلمين، وهو الأمر الذى جعل البعض يسخر من ذلك الإجراء، واصفا قرار الرئيس بمن يستبدل بالدولة العميقة دولة أعمق ولاؤها له، كونه من جاء بها إلى أعلى موقع فى الدولة!
غير أن ما أضفى على هذه الإجراءات الطابع الثورى هو الصورة الذهنية التى نجح فى فرضها الإخوان، وهو أن الرئيس مكبل الأيدى وغير قادر على الحركة بسبب المجلس العسكرى، تحديدا طنطاوى وعنان، والمبالغة فى فرض تلك الصورة الذهنية، كما حدث بالضبط مع الجنزورى الذى منحته الدولة لاحقا قلادتها!! حتى بدا الإجراء شديد الثورية عند اتخاذه، بل ويحظى بدعم شعبى وكأنه انتصار، رغم كونه فى الحقيقة انتصارا زائفا، فالقرار كما أشرنا لا يعدو كونه بناء تحالف جديد مع النظام القديم، يضمن للدولة الإخوانية التى تشق خطواتها الأولى بالسيطرة والهيمنة، وفقا لمنطق الاستحواذ التدريجى، الذى يحتاج فى هذه المرحلة إلى شراكة مؤقتة مع ما هو قديم.
وهنا ينبغى الإشارة إلى أن الإعلان الدستورى الذى أصدره الرئيس صب فى هذا الاتجاه، فالرجل استغل الطابع الثورى الوهمى لقراره فى تمرير إعلان دستورى مكمل يجعله ذا صلاحيات إلهية، ويمنحه الحق فى فرض الدستور الإخوانى بالقوة، سواء عن طريق الجمعية التأسيسية الحالية، أو عن طريق جمعية تأسيسية يشكلها هو أيضا وفقا لهواه ورغبته، ناهيك بكل الإجراءات المتعلقة بعملية التحول الديمقراطى وإجراء الانتخابات ستكون فى يد الجماعة ولا أحد سواها فى ظل احتفاء سياسى من حركات ثورية عدة. ويبقى فى النهاية أيضا أن القرارات أهميتها تكمن لدى القوى غير الدينية، التى آن الأوان لبعضها أن تدرك أن لا سبيل إلى المحافظة على مدنية الدولة سوى بعملها الحزبى وقدرتها على الانتشار والتأثير والحشد دون انتظار وهمى بأن أحدا قد يوفر حماية أبوية لدولة مدنيتها مهددة بالخطر يوما بعد يوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق