الإثنين مساء: والدة الشهيد محمد مصطفى مرسى فى شارع محمد محمود ــ هذا الشارع الذى لم تكن له أبدا أى نكهة خاصة، إلى أن عبأه العسكر بالغاز الحارق وقتلوا فيه ما يزيد على أربعين شابا فصار مكان استشهادهم المكان الأقرب لقلوبنا وقلب الثورة، وازدهرت مِصرُنا على حوائطه فرعونية قبطية إسلامية أصيلة متجذرة معاصرة، تسجل تاريخها، وتحتفى بأبنائها، بشهدائها، وشبابها الذين أفقدهم العسكر، هنا، نور عيونهم، فأصبحوا هم نور عيوننا وعيون مصر.
تجلس والدة الشهيد محمد مصطفى مرسى على الرصيف ــ فقد جعلتنا الثورة نرتاح للجلوس على أرصفة وسط البلد ــ تحمل لافتة كبيرة عليها صورة ابنها واسمه، وتاريخ استشهاده: ٢٥ يناير، مالحقش الشاب، راح من أول يوم فى الثورة. جميل هو. ينظر إلى الكاميرا بثبات، وابتسامة صغيرة ــ مشروع ابتسامة ــ قد بدأت تطل من عينيه. وجه الأم فوق الصورة، تنظر إلينا بنفس الثبات ــ وبدون الابتسامة. وراءها، على الجدار، بخط ديوانى ضخم، ثلاثة أحرف سوداء بحواف بيضاء: نـتـخـ.
آخر مرة رأيت هذه السيدة، والدة الشهيد محمد مصطفى مرسى، كان مساء أول رمضان، فى مستشفى العجوزة، وكانت تهرول إلى الداخل وتصرخ جزعة: «مات؟ مات؟» والحمد لله لم يكن قد مات، زوجُها، عم مصطفى مرسى، أبوالشهيد، لكنه كان يرقد على تروللى فى الاستقبال، يأخذ نَفََسه بصعوبة، ويده ــ على صدر قميصه المخضب بدمائه ــ تمسك بنسخة صغيرة من نفس الصورة ثابتة النظرة بادئة الابتسامة. كان قد سجل شهادته: حكى كيف هد الجيش الخيمة على رؤوسهم وهم يجهزون الإفطار فى التحرير، كيف تتبعهم العسكر وهم يحاولون الابتعاد، كيف انتزعوا صورة ابنه من على صدره وداسوا عليها بالبيادات، كيف قال لهم إنه مثلهم، قوات مسلحة، لكن متقاعد، وعنده شظايا فى ساقه من الـ ٧٣ فظلوا يضربونه «بغباوة» إلى أن فقد الوعى.
كان هذا منذ عام، بعد أن فضت القوات المسلحة وقوات مكافحة الشغب ــ الأمن المركزى بمسماه وزيه الجديد ــ اعتصام أهالى الشهداء فى التحرير. واليوم تجلس والدة الشهيد على رصيف محمد محمود والخط العربى وراءها يمر فوق الشهداء والأمهات ويقول «نتخـ»: اجرى ورا الانتخابات وانسى اللى مات.
لكننا لا ننسى. الثورة لا تنسى. والشباب والكبار لا ينسون. نتحين الفرص لنتذكر ونُذَكِّر ونحتفى.
أمس الثلاثاء: الإفطار فى محمد محمود فى عيد ميلاد الشهيد عاطف الجوهرى، الشاب الناصع ذو الصوت المميز، لا تنزل إلى الميدان دون أن تلتقيه، يسأل ويسلم وكأن الميدان ومن فيه مسئوليته، بيته، قتلوه فى أحداث العباسية الثانية (مايو ٢٠١٢)، ليسكتوه نسفوا بالرصاص فمه والنصف الأسفل من وجهه.
أمس الأول الإثنين: ذكرى ثورة ٥٢، الذكرى التى بمناسبتها توجه الشباب إلى وزارة الدفاع ليرفعوا مطالبهم إلى المجلس العسكرى فاستوقفهم الجيش وأسلاكه الشائكة عند جامع النور وكانت أحداث العباسية الأولى. استشهد فيها محمد محسن، ابن أسوان الذى كان من أول وأنشط من انضموا إلى حملة التغيير فى إرهاصات الثورة. ترك رفاقا وأصدقاء، تحدث صديقه، عبدالرحيم عوض، باسمهم حين كتب له، فى ذكرى استشهاده، رسالة رقيقة تنتهى: «.. فاعلم أخى أنى وباقى الرفاق ماضون على سبيلك، لن نخذلك ولن نتراجع فالشعلة التى أوقدتها باستشهادك تضىء لنا الطريق، ورسالتى إلى النظام الذى لم يسقط، إلى المجلس العسكرى: سنمضى على درب الشهداء حتى نسمع أصوات ابتساماتهم تملأ الميادين بسقوط النظام ويتحقق هدفهم بتحريرنا من حكم العسكر».
والإثنين، فى محمد محمود، غنت اسكندريللا للثورة وللشهداء ولمينا دانيال الذى كان عيد ميلاده الأحد. مينا دانيال الذى قتلوه فى ماسبيرو فصار أيقونة وصار عَلَمَه يظهر فى كل مكان فى مصر يقوم فيه الناس مطالبين بحقوقهم وكرامتهم.
انظروا إلى قائمة الكتب هذه:
فلسفة التاريخ عند ابن خلدون، رجال صاغوا القرن، فجر الضمير، جيفارا، حول الاشتراكية العلمية، الطريق الثالث، أم الحضارات، تحت المظلة، هنرى كورييل: الأسطورة والوجه الآخر، الفقراء ينهزمون فى تجربة العشق ــ شعر على منصور، مجدى أحمد حسين: سجين غزة، عمال مصر ٢٠٠٩، الدولة: دراسة فى علم الاجتماع السياسى، معجم الحضارة المصرية القديمة، العنقاء أو تاريخ حسن مفتاح للدكتور لويس عوض، الإخوان المسلمون والأقباط: تداعيات الصدام والحوار، ثورة الشباب لتوفيق الحكيم، الدليل التدريبى العام على مراقبة انتخابات مجلس الشعب ٢٠١٠، فن الحب لإريك فروم، أوراق اشتراكية: كيف تتحرر فلسطين؟، مقدمة فى الفلكلور القبطى، أقول لكم ــ صلاح عبدالصبور، ما وراء تأسيس الأصول: مساهمة فى نزع أقنعة التقديس، المجلد الثانى فى سلسلة كمبردج لتعليم الإنجليزية للطلبة العرب، نلسون مانديلا: السيرة الذاتية.
هذه مكتبة مينا دانيال. كان فى الثالثة والعشرين وقرأ هذه الكتب ــ وقتلوه. كان فى الثالثة والعشرين وروحه عالية وابتسامته حاضرة ويرفض الانزواء فى أى ركن من الأركان، سواء كان ركنا طائفيا أو طبقيا أو جغرافيا أو ثقافيا أو حتى لغويا ــ وقتلوه. كان فى الثالثة والعشرين ونزل يجاهد فى الحياة العامة ثم فى الثورة ــ وقتلوه. ولم يكن قتله عشوائيا، فقد كان فى الدقائق الأولى من أحداث ماسبيرو وبطلقة مصوبة.
ثم يجرأون على الحديث عن تكريم الجيش.
أم الشهيد فى محمد محمود، ونحن لن ننسى. لن نسامح. لن نصالح. لن نسكت. هنجيب حقهم، ونحقق حلمهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق