حدوتة ما قبل «الوثيقة»November 7th, 2011 11:00 am
كما ترى، فإن بعضهم يملأ الدنيا إرهابا وضجيجا هذه الأيام، زاعما ببجاحة مثيرة للأعصاب أن فكرة المبادئ الدستورية الأساسية بدعة لم يسبقنا إليها أحد، وأنها اختراع لا أصل ولا لزوم له.
وبعيدا عن أن هذا الزعم الجهول يدارى خلفه طمعا مفضوحا ومتهورا من جماعات مظلمة العقل، تتوهم أن بمقدورها استغلال فرصة احتمال الفوز بأغلبية برلمانية طارئة (أى قد لا تتكرر مرة أخرى) فى الانتخابات المقبلة، ومن ثم تتوسل بهذه الأغلبية فى إعادة هندسة المجتمع المصرى هندسة عكسية، فتلغى تنوعه بجرة قلم وتفقره من ثراء تكوينه المتعدد وتركيبه المعقد وتسجنه فى زنزانة مفاهيمها الحجرية المعادية والمناقضة لحريات الناس من خلال التفرد بوضع دستور للبلاد تصنعه على مقاسها الضيق.
بعيدا عن هذه الحقيقة، فإن الحقيقة الثابتة الراسخة فى تراث مسيرة الحضارة الإنسانية أن وثائق المبادئ الدستورية الأساسية أو الكلية ليست بدعة ولا اختراعا، بل بالعكس، لقد لعبت هذه الوثائق فى التاريخ البشرى الحديث دور الفكرة الأم للدساتير أصلا.
ومن باب التسلية (لا التثقيف) فى إجازة العيد، سيحكى العبد لله فى السطور التالية حكاية من أجمل حكايات الثورة الفرنسية (بعض حكاياتها دموية ومروعة) أى حكاية وثيقة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» التى سبقت وضع الدستور الفرنسى بعامين كاملين وصارت مقدمته وديباجته الافتتاحية التى يزهو ويفتخر بها الفرنسيون حتى الساعة.
ربما هناك كثر من الناس لا يعرفون أن شرارة الثورة الفرنسية لم تنطلق يوم 14 يوليو 1789 (يوم العيد الوطنى الرسمى لفرنسا)، عندما زحف ثوار باريس إلى سجن الباستيل الرهيب وأسقطوه، فكان ذلك بمثابة أقوى إشارة إلى أن سلسلة الوقائع والأحداث التى سبقت هذا التاريخ بشهور قد بلغت ذروة عظمى تشى بتصدع وبدء انهيار النظام الملكى الإقطاعى العاتى.
تلك السلسلة من الأحداث الثورية كانت بدأت بالفعل يوم 4 مايو 1789 حين حضر الملك لويس السادس عشر جلسة افتتاح «مجلس الطبقات» أو برلمان ما قبل الثورة، الذى كان مكونا من ثلاثة مجالس منفصلة تماما عن بعضها (حتى فى الأماكن المخصصة لجلوس النواب)، فهناك مجلس للطبقة الأولى (النبلاء)، وللطبقة الثانية (رجال الدين) مجلس آخر، وأخيرا مجلس لعامة الشعب أو الطبقة الثالثة، وفى هذه الجلسة شعر الملك بمقدمات انفجار بركان الغضب والتمرد على نظامه العتيق، ثم راحت الأيام تتوالى بعد ذلك، حاملة تطورات سريعة ومتلاحقة كان أخطرها وأكثرها تعبيرا عن النظام الجديد الذى يولد من قلب هذا المخاض العظيم هو قرار تاريخى اتخذته أغلبية أعضاء مجالس البرلمان الثلاثة يوم 17 مايو، بإلغاء انقسامهم الطبقى إلى الأبد وإعلان توحدهم جميعا تحت مسمى «الجمعية الوطنية» أو مجلس الأمة، لكنهم بعد إعلان القرار هتفوا «يحيا الملك»!! (هؤلاء النواب سيشقون حناجرهم بهتاف عكسى بعد أقل من ثلاث سنوات، إذ سيطالبون بإعدام الملك وأسرته على المقصلة بتهمة الخيانة العظمى.. وهو ما سيتم فعلا).
وفى يوم 9 يوليو 1789، أى قبل سقوط الباستيل بأربعة أيام، أعلن نواب البرلمان (المنتخب طبقا للنظام القديم) تغيير اسمه للمرة الثانية، وحولوه إلى «الجمعية الوطنية التأسيسية» لوضع الدستور، وفى جلسة 4 أغسطس، وافق النواب على اقتراح «ميرابو» على البدء فى صياغة مراسيم قانونية تكفل الحريات الأساسية وتكرس المساواة المطلقة بين المواطنين وتلغى عبودية الأغلبية الساحقة من الشعب، وتهدم أركان النظام الإقطاعى المتخلف الذى يجلس الملك على قمته.. وبالفعل توالت هذه المراسيم والتشريعات حتى توجت يوم 28 أغسطس بإقرار وثيقة «إعلان حقوق الإنسان والمواطن»، الذى جاء باستهلال بليغ قدم لقائمة من حقوق وحريات البشر الأساسية وزعت على ثمانية عشر بندا ما زالت تمثل أساسا لكل بناء المنظومة الحقوقية الإنسانية المعاصرة.
.. انتهى ملخص الحكاية.. وغدا نتسلى بحكاية أخرى من حكايات الثورة الفرنسية، ولتكن حكاية «المقصلة» التى أتمنى أن تحمل عظة وعبرة لمن لا يريد أن يعتبر.. وكل عام وأنتم بخير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق