بدايةً.. نتساءل: لماذا قامت الثورة فى مصر فى 25 يناير 2011؟
الإجابة الحاسمة تتركز فى أن هناك العديد من الأسباب، من بينها جبروت النظام وتمركز السلطة فى يد رئيس الجمهورية حسنى مبارك المخلوع لمدة 30 سنة، وما ترتب على ذلك من فساد وإفساد، وصل بالشعب إلى الثورة عليه وإسقاط نظام الحكم وإسقاط الدستور الذى كان يعطى أكثر من 67٪ من جملة الاختصاصات للرئيس وحده، وبالتالى سخّر كل سلطاته للعمل ضد الشعب ولصالح فئة محدودة هم الأصهار والأنجال والشركاء فى البيزنس، فنهبوا البلاد وخربوها ودمروها وتركوها أطلالا، فقد كنا نعيش فى ظل ديكتاتور كبير، ولم يتحمل ذلك الشعب فثار عليه لإسقاطه، ومن ثم لم تعد هناك فرصة لتقبل ديكتاتور جديد، فما الذى حدث فى مصر خلال الأيام الأخيرة؟! مجموعة قرارات أصدرها د.مرسى بصفته رئيس البلاد أهمها إلغاء الإعلان الدستورى المكمّل الذى أصدره المجلس العسكرى بمشاركة العديد من القوى السياسية فى 16 يونيو الماضى وما ترتب على ذلك من قرارات أهمها اغتصاب سلطة التشريع وتفتيت المجلس العسكرى بالفتنة، عن طريق تقريب بعض من أعضائه وطرد آخرين خارج السلطة، وما كان هذا يمكن أن يتم خارج الرعاية الأمريكية والقبول من إدارة أوباما التى لم تغب لحظة عن مجريات الأمور بهدف احتواء الثورة، إن لم يكن إجهاضها.
والسؤال المهم هنا: هل للدكتور مرسى سلطة إلغاء الإعلان الدستورى المكمّل؟ أو حتى أى إعلان دستورى آخر مما صدر قبل ذلك، وهى ثلاثة (13 فبراير 2011، 30 مارس 2011، 25 سبتمبر 2011)، حتى الإعلان الرابع فى 16/6/2012)؟ الإجابة الحاسمة أنه لا يملك ذلك، وهناك دليلان يؤكدان عدم سلطته وعدم شرعية قراراته، وهما:
الأول: عندما بادر بتوسيع سلطاته بإلغاء قرار رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، بحل البرلمان (مجلس الشعب) بعد حكم المحكمة الدستورية، وكان رد المحكمة الدستورية حاسمًا بإلغاء القرار الرئاسى باستدعاء البرلمان للانقعاد، وكان رد محكمة النقض حاسمًا بعدم الاختصاص، وكان رد مجلس الدولة حاسمًا حينما أحال الاعتراضات من فريق المحامين من الإخوان المسلمين إلى «الدستورية العليا»، ليتأكد نهائيًّا عدم دستورية قرار د.مرسى بعودة البرلمان.
الثانى: عندما قام فريق المحامين بالإخوان المسلمين بالطعن على إصدار الإعلان الدستورى المكمّل «الرابع»، مطالبين ببطلانه وإلغائه، حكمت محكمة القضاء الإدارى برفض الدعوى، وأعلنت فى حيثيات حكمها أنه عمل من أعمال السيادة التى لا يجوز إبطالها، لأنه جزء من البناء الدستورى الحاكم فى البلاد فى الفترة الانتقالية، وبالتالى أعطت المحكمة الشرعية لهذا الإعلان ولا يجوز بالتالى لرئيس دولة جاء على أساس هذا الإعلان وحلف اليمين أن يقترب منه.
إذن فإن مثل هذه القرارات الرئاسية، تمثل انقلابا على الشرعية الدستورية، وهى خارج الإطار الدستورى، وتمثل عودة إلى تركز السلطة فى يد شخص واحد، كما كان الأمر سائدًا قبل ثورة 25 يناير، فما الجديد إذن؟! فالرئيس مرسى، قَبِل الإعلان الدستورى التكميلى، وحلف اليمين وهو على مضض، أمام المحكمة الدستورية وفقا لنصه، ومن ثم فالمبادرة بإلغائه، هى حنث بالقسم على احترام الدستور والقانون، وهى مؤشر بأن قرارات رئيس الجمهورية ضد الصالح العام وضد الشعب وضد الثورة ومبادئها فى الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية التى كان عليه أن يعمل من أجلها، لا السعى وراء التمكن من السلطة مهما كان ثمن هذه القرارات وانعكاساتها على الشعب.
وقد أصبحت شرعية الرئيس على المحكّ لعدم وفائه بالقسم، فضلا عن أن القسم نفسه ألغى بحكم إلغاء النص الذى على أساسه تم حلف اليمين، وهو الإعلان الدستورى المكمل.
فكما هو واضح، فإن الهدف الأساسى لمثل هذه القرارات التى تمثل اعتداءً صارخًا على الوضع الدستورى المؤقت للبلاد، وتفتقر للشرعية، هو تمكين الرئيس من السيطرة على السلطة كلها وحده فى البلاد، وبالتالى تمكين الإخوان المسلمين التى ينتمى إليها من باقى الأركان حتى ينفردوا بإدارة شؤون البلاد دون مشاركة حقيقية من القوى السياسية الشركاء فى الثورة، وكأن الثورة قامت لإزاحة نظام حسنى مبارك، وفرض جماعة الإخوان المسلمين بديلا عنه، وذلك تكريسًا لما كان يشيعه نظام مبارك بأن البديل هم هؤلاء، وحدث فعلا!
فقد سيطر الإخوان على الإعلام كله «صحافة، إذاعة، تليفزيون»، وسيطروا على مراكز الشباب بتعيين وزير إخوانى كما حدث فى الإعلام أيضا، وسيطروا على الحكومة والرئاسة والتشريع بعد إلغاء المكمّل، فماذا بقى لهم لأن يسيطروا عليه، سوى الدستور الذى سيتم وفقا لما خططوا له ورسموه!
وكان فى تقديرى أمام د.مرسى طريقان: الأول: هو استمرار مساحة حرية الحركة أمامه بتشكيل الحكومة ومحاولة إنجاز نوعى يشعر به الشعب لتتحول شرعيته من الدستورية إلى الشرعية السياسية بقبول متزايد من الشعب له، والاستمرار مع المجلس العسكرى بهدوء حتى عبور باقى المرحلة الانتقالية، مع استكمال مشوار إعداد الدستور حتى لو أخذ فترة أطول فى إعداده مثل كل دساتير العالم، وهو طريق آمن وخسائره أقل، ولكنه يحتاج إلى مجهود كبير من أجل الإنجاز، والطريق الثانى: هو الانقضاض على الوضع الدستورى بإلغاء الإعلان الدستورى التكميلى، وإزاحة رؤوس المجلس العسكرى واحتواء البعض من أعضائه بأسلوب الفتنة السياسية المعروفة، وهو خيار صعب، وله تداعيات خطيرة حيث ستتزايد حالة عدم الاستقرار، وانقسامات بين صفوف الشعب، وإشاعة الخوف مرة ثانية فى النفوس مثلما كان سائدًا قبل الثورة، ولعل فى البدء بمحاولات الإخوان إجهاض حرية الرأى والتعبير بقرارات إدارية لا قضائية مؤشرًا واضحًا يؤكد الثمن الفادح الذى سيدفع مستقبلا.
وربما اختار د.مرسى الطريق الثانى وهو الطريق الصدامى الذى كنا نتوقعه على خلفية الاستناد إلى شرعية الصندوق لا شرعية الإطار الدستورى الذى قبلوه ووافقوا عليه (الإخوان وغيرهم)، متناسيا أن شرعية الصندوق جاءت فى ظل الوضع الدستورى المؤقت، ويبدو أنه وافق على هذا الخيار للتمكين ولإلهاء الشعب عن محاسبته فى فشل الإنجاز المرتقب، لكن لن يتسامح الشعب معه بعد أن سيطر على كل شىء، ولم يفعل أى شىء.
إن الشرعية التى تصرف على أساسها د.مرسى رئيس الدولة لم تكن هى الشرعية الدستورية التى نجح على أساسها، بل هى شرعية القوة التى أراد استثمارها للتمكين وإشاعة أنه يسعى لممارسة جميع الاختصاصات، ولعل شرعية القوة المعروفة فى السياسة والعلوم الاجتماعية بأنها شرعية الغاب، حيث يلتهم القوىُّ الآخرين لضعفهم أو عدم وحدتهم، هى شرعية غير أخلاقية، وغير ثورية، وهى فى النهاية شرعية مؤقتة ربما تزول اليوم أو غدًا أو حتى بعد عدة سنوات.
وما كنت أتمنى أن تمر الثورة بهذا المنعطف الخطير، الذى تأكد بهذه القرارات أنها فى طريق الانهيار بعد قراءة مشهد ما بعد القرارات الرئاسية غير الشرعية.. والله الشاهد، ويبدو أن الحوار فى طريقه إلى عدم الاستمرار.
▪ ▪ ▪
ملاحظة: هذا المقال منع من النشر فى الأخبار يوم الخميس 16/8/2012، وهو الموعد الأسبوعى لنشر مقالى لأكثر من عام مضى، وقد أرسلته فى الموعد المحدد صباح 14/8/2012 وذلك المنع يواكب أول أسبوع بعد تعيين رئيس التحرير الجديد من مجلس الشورى الباطل دستوريًّا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق