كم من مرة خرج دكتور محمد البرادعي علينا بحلول وخطط دستورية سليمة للانتقال بالثورة لبر الأمان وكل مرة تأخذ النخب والقوى السياسية إياها منعطفا آخر غير ما يقترحه دكتور البرادعي، وبدلا من أن تسلك الثورة طريقا صحيحا, نجدها تسلك مسارا آخر مسار النخب والقوى السياسية إياها التي تفقد فيها الثورة طاقاتها في أزقات وطرق وعرة ومتاهات دستورية يضيع فيها الوقت والجهد المبذول من قبل الثوار لإنجاح ثورتهم بسبب تلك النخب والقوى إياها.
وفجأة عند نهاية كل طريق من طرقهم الوعرة تكتشف تلك النخب والقوى السياسية أن طريقهم كان خاطئا، ويخرج بعدها دكتور محمد البرادعي كعادته التي عهدناها منه بحلول لمحاولة الخروج من الأزمات التي وضعتنا فيها النخب والقوى السياسية، وكالعادة لا يتم الأخذ بتلك الحلول.
والآن بعد أن انعطفت الثورة ناحية "فترة انتقالية ثانية" بقى فيها العسكري مستمرا ومهيمنا على السلطة في مصر عرفوا وقتها قيمة فكر دكتور محمد البرادعي، وأيقنوا أنه كان صحيحا في مقترحاته ورؤيته للطريق الصحيح الذي كان يجب على الثورة سلكه من الأساس.. طريق الدستور أولا, طريق معركتنا الرئيسية هي الدستور وليس الرئيس كما كان يردد دائما، ولكنه طمع الاستحواذ على السلطة من جانب النخب والقوى إياها هو الذي أضاع الثورة في تلك المتاهات ولا تزال تلك الأطماع هي من تضع الثورة في خنادق ضيقة ومتاهات جديدة.
قامت الدنيا وما قعدت إزاء تصريح للدكتور البرادعي حول قرار رئيس الجمهورية بعودة البرلمان المنحل صرح فيه قائلا: إن القرار التنفيذي بعودة البرلمان هو إهدار للسلطة القضائية ودخول مصر في غيبوبة دستورية وصراع بين السلطات.. لك الله يا مصر!
ووجهت الاتهامات له على أثرها رغم أنه وضح وقتها قائلا: لغير أهل القانون هناك فارق بين إسناد سلطة التشريع من خلال إعلان دستوري للجنة التأسيسية، أو حتى رئيس الجمهورية، وبين إهدار السلطة القضائية. أي أنه كان يرمي إلى إمكانية استخدام حل آخر دون الدخول في طريق إهدار السلطة القضائية.
للأسف الشديد لا زالت بعض من عقول الثورة لم تستوعب بعد معاني قوانين الانسانية, استقلال القضاء وتطهيره من داخله واجب لطالما نادت به الثورة ولا يتأتى ذلك بتدخلات سافرة فيه بل بإعطاء الفرصة لهذا الكيان للاستقلال والتطهير.
ولا ننسى أن الثورة فرضت مبدأ قوة العدل والاستقلال وليس مبدأ الهمجية, دعت إلى استقلال القضاء وتطهيره وليس إلى التعدي السافر على أحكامه والتدخل فيه.
وها قد ثبتت صحة تصريحات دكتور محمد البرادعي بالبيان الذي أصدرته رئاسة الجمهورية على أثر قرار المحكمة الدستورية فور اجتماعها لمناقشة القرار الذي اتخذه رئيس الجمهورية وتوصلا إلى أن قرار المحكمة ملزم ولا يجوز عودة البرلمان, لنجد بعدها البيان الصادر عن رئاسة الجمهورية يؤكد احترامها لحكم المحكمة الدستورية.
إذا فلماذا كان هذا التعدي من الأساس من جانب رئيس الجمهورية على أحكام القضاء!؟ وإذا كان هو متفق مع مبدأ تطهير القضاء إذاً فلماذا كرم دكتور محمد مرسي المستشار عبد المعز إبراهيم الذي رفع حظر السفر عن الأمريكان في قضية التمويل الأجنبي، وكرم المستشار فاروق سلطان الذي كان متولي رئاسة اللجنة العليا للانتخابات في 2010، وأعطاهم أوسمة الجمهورية من الطبقة الأولى!؟
رئيس الجمهورية.. إذا كنت تريد تغيير أحكام أصدرها القضاء مشككا في عدم نزاهته اسعَ لذلك بطرق صحيحة، وهذا السعي يكون بتطهير القضاء وليس بتكريم شخصيات منه ثبت أنها لوثت القضاء بالفعل.
كفانا تعديات سافرة مثلما كان يفعل المخلوع، حتى لا تضيع قوانين الإنسانية وتحل محلها قوانين الغابة وندخل بعدها في نفق مظلم.
وها نحن بعد ثبوت صحة تصريح دكتور محمد البرادعي تعود النخب والقوى إياها إلى التخبط من جديد ولا تعرف ماذا تفعل، وكالعادة يخرج دكتور محمد البرادعي بحلول ومقترحات للخروج من الأزمة التي حدثت مخاطبا الفئة التي لطالما راوغت الثورة حتى أوصلتها لمرحلة توهان، ويطلب منهم الحوار والاتفاق لأجل مصر، داعيا إلى حوار بين القوى المدنية والرئيس والمجلس العسكري لإعداد إعلان دستوري جديد مكمل يستطيع من خلاله الرئيس الحالي إدارة شئون البلاد. من ملامحه لجنة تأسيسية متوازنة لإعداد دستور ديمقراطي يضمن الحقوق والحريات، ونقل السلطة التشريعية إلى اللجنة التأسيسية، والاتفاق على تشكيل مجلس دفاع وطني برئاسة رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، وأن تدخل القوات المسلحة لحماية الوطن أو مشاركتها في حفظ الأمن داخل البلاد يكون بقرار من مجلس الدفاع الوطني.
حقيقة تلك المرة لن أحلم كما حلمت في المرات السابقة أن تستمتع النخب والقوى السياسية إلى مقترحات دكتور محمد البرادعي فما رأيته منهم سابقا يجعلني أتأكد أن تلك المرة أيضا ستكون كسابق المرات التي سبقتها ولن يتم الالتفات إلى تلك المقترحات ولا الأخذ بها.
والأسباب واضحة.. فالقوى إياها لن تقبل أن يكون هناك مجلس وطني موازي لسلطة مكتب الإرشاد المخطط للحياة السياسية الجديدة في مصر الآن وإلا فلماذا صدر قرار رئيس الجمهورية بعودة البرلمان المنحل بعد اجتماع مكتب الإرشاد مع أعضاء حزب الحرية والعدالة ليصدر بعدها القرار؟
وتقريبا المجلس العسكري سيعلن هو الآخر عن تبرعه بإنشاء المجلس الوطني للإعلان الدستوري الجديد الذي يطالب به دكتور محمد البرادعي، وتقريبا أيضا لن يقبل المجلس العسكري أن يعطي رئيس الجمهورية الحالي السلطة التنفيذية وقيادة القوات المسلحة، وسيعرض المجلس العسكري اقتراحا آخر وهو إما القبول برئاسة الجمهورية فقط أو الخلع.
عموما لو لم يقبل باقتراح دكتور محمد البرادعي وتفاوضت القوى في مصر من أجل الخروج من الأزمة سيسجل التاريخ كما سجل سابقا أن دكتور محمد البرادعي لم يمل من تقديم يد المساعدة بأفكار ومقترحات ناتجة من ضمير وطني مخلص من أجل مصلحة مصر وتقدمها, في حين وقف من أوصلونا لتلك المتاهة موقف المعارض لكل من يقدم اقتراحا يحل الأزمة لأنه لا يهم كل هؤلاء سوى مصلحة تياره الذي قدم منه.. هؤلاء لديهم عقول لا يفقهون بها وقلوب لا تبصر.
الأسئلة تخطر على ذهني..
هل ستضيع الثورة وسط تلك المتاهات وستفقد مبادئها التي قامت من أجلها ؟
هل سنستطيع الوصول بسفينة الثورة إلى بر آمن؟
ما أعلمه أن دكتور محمد البرادعي قال ستواجهنا مطبات كثيرة وسنمشي فيها ونخطىء، ولكن لا يوجد شك أن غدا يوم أفضل.. حقا إنه البرادعي رئيس جمهورية الضمير.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق