لمن السلطة اليوم؟ تسأل السؤال وأنت تسمع ضجيج حركة الألواح الكبيرة فى الدولة المصرية.
الألواح تتحرك. فقد حدث الزلزال.
رجل غريب فى القصر. يريدونه فى القصر لتكتمل خطتهم الذهبية فى احتواء الثورة، لكنه سيظل غريبا. رئيس لكن ماكينة الدولة شفطته داخلها، يتجول بين الحجرات، لكن عقله شارد. اختار أكثر بدلاته أناقة، واستخدم رابطة العنق، لكن مجهوده فى السيطرة على مشاعره واضح. المرسى أخيرا على نفس المكتب الذى جلس عليه مبارك عندما قابل عمر سليمان وأحمد شفيق. المرسى فى القصر بينما لم تعد الدولة العميقة تخفى أصوات حرب «الشرشحة» الداخلية بعد فشل سيناريو اختيار آخر سلالة الدم الكاكى.
الشفيق شعر أنه ذُبح وكذلك الطبقة العليا من قادة الثورة المضادة: كيف ندفع كل هذه الأموال ولا ننتصر فى معركة استخدمنا فيها كل ما لدينا.. وآخر ما لدينا؟ قادة الثورة المضادة شعروا بالاطمئنان رغم أن نجاحهم لم يساعد على «تستيف» انتصار قانونى، وكانوا حملا ثقيلا على المجلس العسكرى بعد فقد السيطرة على عناصرهم الإجرامية، وانفلات أعصاب القطاع الوقور. الثورة المضادة كانت فى حرب حياة أو موت.
والثورة شعرت بالغربة تماما فى معركة الانتخابات.
وهناك من اتخذ قرار توجيه ضربة مزدوجة للثورة والثورة المضادة معا.. وهنا كان قبول دخول الغريب فى القصر.
وتقبل حرب الشتائم ضد المجلس العسكرى والمشير شخصيا.
ومونولوجات العكش على قناة «الفراعين» ليست سوى تأكيد أن انفعال شباب حملة الشفيق لم يكن عابرا ولا فلتة أعصاب، كما أن إحراج الشفيق للمجلس بالسفر إلى الإمارات جزء من إعلان حرب.
لكن حرب مَن.. وضد مَن؟
هذا هو اللغز المحير فى استعراضات الثورة المضادة المكشوفة ضد المجلس والمشير والمخابرات الحربية.. وهى كيانات كانت بالنسبة إلى الثورة المضادة محل هيبة وحماية إلى ما قبل إعلان النتيجة بدقائق قليلة.
هل هو تليفون الشاطر بالموافقة على الصفقة.. كما تقول روايات صادرة من أروقة الثورة المضادة؟
أم أنها حرب أجنحة الدولة العميقة كما فسرت بعض التحليلات المجتهدة فى تفسير ما يحدث؟
وفى الحالتين فإن ما يحدث الآن يشير إلى عدم سيطرة أو رغبة فى إظهار عدم السيطرة، لأنها تحمل فى طياتها تسريبا متدرجا بعدم شرعية دخول المرسى القصر، وتبرر الهجوم الضارى على الرئيس قبل حلف اليمين الدستورية.
هى حرب تنهش فى شرعية الصناديق وتختصرها فى حرب الغرف المغلقة، وصراع ألواح الدولة المصرية. ماكينة الدولة امتصت الرجل الغريب عليها، واستقبلت طبقة الحكم (العسكرية -البيروقراطية) رئيسا من خارجها بعد ٦٠ عاما من إحلالها محل أرستقراطية الدم الأزرق. هل هذا العنف والشراسة فى تبادل الشتائم بين أبناء وتوابع الدولة العميقة، هو تعميد للرجل الغريب؟ أم أنها حركة ألواح كالتى تحدث فى باطن الأرض عند قيام الزلزال سيعاد بعدها رسم جغرافيا الدولة العميقة والظاهرة معا؟ ترتبط هذه الحركة الصادمة بتحركات أخرى من أحزاب سياسية، لا وزن حقيقيا لها فى الحراك السياسى، لكنها ومن خلال الرخصة تريد تشكيل ملحق سياسى للمجلس، يدير العداء المكبوت مع الرئيس الغريب ومن يحمل معه أو ما يمثله من رمزية أكبر منه هو شخصيا.
أحزاب المجلس تلعب دورا مشابها لأحزاب القصر قبل يوليو ١٩٥٢، دورا قريبا من شاحنات الجو السياسى أو مثيرات غرائز القتال عند المتنافسين.
وبهذه الوظائف سيحول الصراع بين الدولة العميقة والغرباء عليها إلى سباق ومزايدة: من المتآمر؟ من يتفاهم مع الأمريكان؟ من أكثر ديمقراطية؟ من أكثر انحيازا لدولة القانون؟ من يحقق المصلحة الوطنية؟
أسئلة سنجدها مع كل خلاف وستؤدى إلى نتائج مذهلة تشبه إلى حد كبير مثلا ما خلصت إليه حادثة ٢ فبراير ١٩٤٢ الشهيرة عندما خرج منها الملك فاروق وطنيا، بينما النحاس زعيم الأمة عميلا للإنجليز، كما يتلخص المشهد وكما صنعته تلك الأجواء المشحونة من أحزاب القصر.
وهذا يعنى أننا دخلنا بالفعل دراما سياسية من هذا النوع الغامض والمحبوك والذى تختبر فيه الدولة كل خبراتها ومهاراتها، لكنها فى نفس اللحظة تعبر عن نهايتها أو بمعنى أدق غروب عصر كامل من طرق إدارة الدولة. فى هذا الغروب لا مجال للغرق فى التفاصيل إلا بمنطق الفرجة والتسلية والتعامل مع هذه الدراما بمنطق الفرجة، بينما تتضح إرادة بناء علاقة جديدة بين السلطة والمجتمع. علاقة تبلورها أفكار وروح الثورة، حيث المجتمع شريك وليس متفرجا على استعراضات السلطة، ليس موقعنا متابعة مزايا وطيبة الرئيس الذى يشبه جارى ويصلى الفجر فى الجامع ويأكل البطاطس، لكن المجتمع يحجز موقعه الجديد الذى يقول فيه للرئيس: «لست وحدك فى القصر».
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق